أصداء المصانع-الأهرام إبدو (بروفيل كمال عباس المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية)

مقالات
الاثنين, مايو 30, 2005 - 12:35

أصداء المصانع-الأهرام إبدو بروفيل

جريدة الأهرام إبدو – 2/8 مايو 2007

أصداء المصانع

[ بروفيل كمال عباس المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية]

إعداد داليا شمس

كثيرا ما يتهم كمال عباس – النقابي اليساري والعامل السابق في مجال الحديد والصلب – بالوقوف وراء الإضرابات العمالية التي جرت مؤخرا.  كما تتعرض دار الخدمات النقابية التي يديرها منذ عام 1990 إلى هجوم منتظم من قبل السلطات.

لم يقم عباس بإشعال حريق في المعبد حتى يجد اسمه متداول في وسائل الإعلام؛ بل قام فقط مع آخرين بتأسيس دار للخدمات النقابية في حدود عام 1990.  هذا المركز الذي يعد وحيدا من نوعه قد أرسى بين العمال ثقافة تثير القلق؛ أي ثقافة الإضرابات والمطالبة بالحقوق.  ففي زمن تنطلق فيه نواقيس الخطر حول اختفاء حقبة من الحياة العمالية، مصاحبة بعمليات الفصل والمعاش المبكر التي تدور في المصانع في ظل وتائر متسارعة للخصخصة، من الواضح أن كمال عباس يبدو كشخص غير مرغوب فيه.  إذ يكاد يحمّله كلا من وزير التضامن الاجتماعي، ووزيرة القوى العاملة، ورئيس اتحاد العمال مسئولية الإضرابات العمالية الأخيرة المتصاعدة منذ دخول قانون العمل الموحد لعام 2003 حيز التنفيذ؛ وهو القانون الذي يؤدي إلى تحرير علاقات العمل.

ولد عباس في عام 1954؛ وهو ينتمي إلى جيل كان يرى في عبد الناصر بطلا أسطوريا.  وقد مرت طفولته التي قضاها في الفيوم (التي تبعد 80 كيلومترا غرب القاهرة) بطريقة هادئة، في حضن أم حازمة وحنونة، وأب يعمل كبائع متجول.  وهو يقول: "ما كان يسعدنا حقا أيام المدرسة، أن يقوم أحدنا بإرسال خطاب إلى عبد الناصر، فيرد عليه هذا الأخير ويرسل له صورة".  كانت المدرسة مختلطة ومتواضعة، وتضم داخل جدرانها الأحلام البسيطة، والحي الشعبي بعيدا عن أي تأثير عمالي؛ كما كانت تصطبغ الأرواح بموسيقى عبد الحليم حافظ، مطرب ثورة 1952.  

لا يتسم كمال عباس بحنين العودة إلى الوراء؛ بل على العكس؛ فهو يمتلك تلك القدرة على إعادة أحياء الأفراد، والأماكن، والأشياء التي يفتقدها بعد اختفائها.  وهو يشير: "قد يعود ذلك إلى عيب على المستوى النفسي؛ فكثيرا ما اتخطى الواقع الذي لا أحبه؛ لقد توفت والدتي، ولكنها ما زالت موجودة بالنسبى إلي؛ كما تم تجريدي من وظيفتي في مصنع الحديد والصلب بالتبين بعد الإضراب العمالي لعام 1989، ولكنني ما زلت احتفظ له بنفس الولاء..".  وبالطريقة نفسها، يحاول تفادي ذكر معلمه يوسف درويش، محامي الطبقة العاملة، والأب الروحي للحركة الشيوعية المصرية الذي توفى منذ عامين، والذي نرى صورته معلقة في المكتب المجاور.  هذا الأخير هو صاحب فكرة إنشاء دار الخدمات العمالية لإحياء مفهوم مرتبط بثلاثينيات وأربعينيات القرن العشرين؛ أي مرحلة التعددية النقابية.  فاكتفى حينئذ بطرح الفكرة، تاركا لصديقة العامل كمال عباس مسئولية تنفيذها؛ حيث قام عباس بتحقيق المشروع بصحبة ما يقرب من 25 عاملا؛ ويقول بصوت محتبس بالبكاء: "لقد تعرفت على يوسف درويش عام 1987، ثم تعمقت معرفتي به منذ عام 1989؛ أنه كان يجسد بالنسبة لي جميع القيم النبيلة".

يلجأ عباس حتى اليوم إلى أسلوب "التخطي" (أو التجاوز) نفسه فيما يتعلق بإغلاق المقرات الثلاثة لمنظمته غير الحكومية في غضون شهر واحد؛ أي مقر نجع حمادي (جنوبا)، والمحلة الكبرى (في الدلتا)، ومؤخرا المقر الرئيسي بحلون (أحد ضواحي القاهرة).  مباشرة قبل الإغلاق الذي كان يتوقعه، كان هناك عدد من ممثلي المجتمع المدني الذين احتشدوا على مدى الأربع وعشرون ساعة بدار الخدمات العمالية في حلوان.  طوال الوقت، كان كمال يردد لنفسه أن "قيام الشرطة بإغلاق المقرات لا يستطيع منع وصول الرسالة حيث تلقى الناس الفكرة بالفعل".  كما كان يعلم أن غضب الحكومة لن يتوقف عند هذا الحد، خاصة في ظل التعديلات الدستورية الأخيرة التي تكبل الحريات، ونظرا لتصاعد عدد الإضرابات العمالية.  فعلى سبيل المثال، حاول مركز الأرض لحقوق الإنسان حصر الحركات الاحتجاجية التي تمت خلال شهر مارس الماضي وحده؛ وقد قدرها بعشرة اعتصامات، وسبعة إضرابات، وثلاث مظاهرات، وحالتي انتحار.  يلخص كمال عباس الوضع في الكلمات التالية: "تعني الإضرابات الأخيرة أن هناك تراكما للمشاكل، إلى جانب غياب ممثلين حقيقيين عن العمال.  كما أنها تفسر الحاجة إلى إجراء حوار اجتماعي؛ فالحكومة تصر على التعامل مع المشكلة العمالية بأسلوب كل حالة على حدة بدلا من التعامل مع تلك المشكلة في شموليتها."  ثم يضيف: "يقوم العمال بالإضراب وهم يعلمون أن القانون يجعل هذا الحق شبه مستحيل؛ إلا أن هناك عديد من العوامل التي شجعتهم على ذلك: الدور التربوي الذي قام به مركزنا، وتدهور الأوضاع بصفة عامة، ومساندة الإعلام المستقل، وتصاعد التظاهرات السياسية بصفة عامة".  حينما وصلت ست عربات للأمن المركزي من أجل إغلاق مكتب حلوان، كان كمال في غاية الهدوء وفقا لأحد المحاميين اليساريين الشبان الذي يضيف: "لقد رفض حدوث أي اشتباك، بينما كنا نقترح عليه الدخول في معركة حتى يتم تحويلنا إلى النيابة العامة.  تركهم يقومون بعملهم بينما كان قد سبق واستأجر مقرا آخر في الشارع نفسه من أجل مواصلة نشاطه.  فهو يفهم المنطق الذي يحرك الشرطة، أي أنهم يريدون فقط أن نجد أنفسنا في الشارع دون منحنا فرصة الذهاب إلى النيابة.  أما هدفهم الإداري، فقد تمثل في "قطع الميه والنور" عنا".  دون الدخول في مزيد من المهاترات، كان يسعى كمال إلى إخراج أكبر قدر من مقتنيات الدار؛ أيعني هذا أنه مراوغ جيد؟  كان يقوم مركزه بتعليم العمال – ضمن أمور أخرى – كيف يتفاعلون مع الأحداث، ويدخلون في مفاوضات، وينجحون في توصيل قضيتهم.  ويقول عباس: "لا بد للمتفاوض الجيد أن يكون مرنا؛ يمكنني القبول بتنازلات حينما أعلم مقدما أنها أمور أصبحت جزء من الوعي"؛ وهو الأمر الذي يعبر عنه مستندا إلى كل الثقة التي اكتسبها خلال مشواره النقابي منذ 1979.

كان هذا الشاب المولع بالسينما والأدب، قد تعاطف مع الأفكار الاشتراكية منذ السبعينيات؛ "كنت أشاهد جميع الأفلام التي يعرضها داري السينما الموجودة في الفيوم؛ وكنا نسعى خلال حرب 1973 إلى بذل الجهود على المستويين الإنساني والاجتماعي.  اتسمت الحركة الطلابية في تلك الفترة بنشاط عارم، وكشفت أمامي وجه جديد تماما؛ وهو ما جعلني أتطلع في تلك الفترة إلى قراءات أكثر تحديدا".  في عام 1977، بعد خروجه من الجيش، حصل على عمله في مصانع الحديد والصلب التي تعد رمزا وطنيا للثورة الصناعية، والتي كانت تعد بالنسبة إليه "مصدرا للإلهام منذ أن سمعت عنها من خلال نص للقراءة في السنة الثالثة من التعليم الابتدائي".  ثمّن هذا اللحّام فكرة أن يكون مفيدا، وأن يصنع أشياء ممكن أن تفيد الناس.  كما شعر بالفخر لانتمائه إلى هوية عملاقة، وهي كتيبة جموع العاملين الذين يصنعون المستقبل، ويساهمون في "تحقيق حلم المصريين في بناء دولتهم العصرية منذ محمد علي حتى ناصر؛ وهو حلم البسطاء وليس حلم القادة، كما كتب الصحفي أحمد بهاء الدين".

 

يستمر كمال عباس في سرد ذكرياته؛ فهو يحكي لنا كيف قضى معلموه العمال فترة تسعة شهور من التدريب في معهد التكنولوجيا بحلوان من أجل استكمال التدريب الذي تلقوه بروسيا على مدى تسعة شهور أخرى.  كما يصف فخر هؤلاء المعلمين الذين أدخلوا إلى وجدانه معنى الحياة.  وهو الذي انطلق – في هذا الإطار – في النشاط النقابي، وقام بقراءة عديد من الأعمال التي تتناول تاريخ الحركة العمالية على مستوى العالم.  وهكذا حدث التحول.  إذ يتحول الشاب الخجول الذي يتعثر لسانه ويتجنب التجمعات الكبيرة إلى خطيب بليغ، ويفيدنا بالتالي: "لقد برزت شخصية أخرى من خلال التعامل مع الـ200.000 عامل الموجودون بالمصنع، والتمرد على الأساليب غير الديمقراطية التي تعترض نضال العمال.  وهكذا اكتسبت القدرة على الخطابة، وعلى التعبير عن أفكاري بطريقة واضحة..وهو ما يعد مكسب أمتلكه الآن.  كما قمت بإصدار مجلة "كلام صنايعية" التي تتوجه خصيصا إلى زملائي، والتي تنفذ نسخاتها الألف في يوم واحد".  كما شهدت السبعينيات بروز الكوادر المتعطشة إلى الديمقراطية العمالية التي لم تتوان في المطالبة بتأسيس النقابات المستقلة.  وفي جميع الأحوال، يجدر القول أن الصراع بين أنصار التعددية النقابية، وأولئك الذين يطالبون بوجود نقابة عامة واحدة تخضع لرقابة الدولة – كما هو الحال منذ عام 1957 – ظل عامل فرقة بين أقطاب الحركة العمالية.

وعلى الرغم من ذلك، لم يكن متاحا في ذلك الحين أن يدور الكلام حول الإضرابات؛ فهي الفكرة التي ظلت مبهمة لزمن طويل، وارتبطت بمفهوم التدمير التي كانت ترفضها الإدارة، كما كان يرفضها العمال أنفسهم؛ حيث كان يرى الفريق الأخير أنها تتعارض مع شعار آخر يرفعه النظام مفاده أن "أدوات الإنتاج ملكية عمالية وعامة".  غير أن البلاغة الشفهية لكمال عباس قد أتت بثمارها؛  ففي عام 1989، قام عمال مصانع الحديد والصلب بإضرابهم الشهير؛ وهم العمال أنفسهم الذين كانوا يرفضون هذه الفكرة فيما قبل.  تمخض هذا الإضراب عن وفاة أحد العمال، وإصابة خمسة عشر منهم، وإلقاء القبض على 1200، من ضمنهم كمال عباس.  يشير كمال بهذا الصدد: "جاء رد فعل الحكومة شرسا؛ غير أن المطالبات العمالية هي التي فتحت الباب أمام مطالبات أخرى ذات طابع ديمقراطي واجتماعي التقطتها فيما بعد الأحزاب السياسية ونقابة المحاميين".  بعد خروج كمال من السجن، تم استبعاده من مصنعه الحبيب لنقله إلى مصنع آخر يعمل في المجال نفسه.  حينئذ، طلب أجازة بدون مرتب، وبدأت مرحلة جديدة في حياته مع تأسيس دار الخدمات العمالية والنقابية.  يطرح علينا كمال عباس الفكرة التالية: "حاولنا تفادي الأخطاء التي وقع فيها اليسار؛ فلم نعر أهمية كبيرة للاجتماعات والبيانات؛ وتعلق الأهم بالتفاصيل والتنفيذ؛ أردنا تبني منهجية علمية؛ وهنا استفدنا من الموروث الاشتراكي.  فكانت لدينا في البداية أهداف عامة، تطورت فيما بعد إلى برنامج أكثر تبلورا في حدود عام 1996".  والجدير بالذكر أن كمال ظل عضوا بحزب التجمع فيما بين أعوام 1980 و1984؛ وهو لا يحبذ فكرة الانصهار الكامل في المجموع الذي يحدث على حساب أدوار الأفراد.

من أجل تكوين العمال بطريقة ملموسة، تتعاون الدار - من بين جهات أخرى – مع الاتحاد السويدي للعمال، ومع الجامعة العمالية لجنوب أفريقيا.  ومع ذلك، أصبح من الحتمي اللجوء إلى الدعم المالي، وهكذا يقول: "ظللنا نعتمد على مواردنا الذاتية حتى عام 1995، حرصا على تجنب التمويل الأجنبي خوفا من سعيه إلى فرض جدول أعمال خاص به.  ناقشنا الأمر مطولا، ثم انتهينا إلى قبول الدعم غير المشروط الوارد من تشكيلات نقابية معترف بها".  وهو ما يعد إجابة على الاتهامات الموجهة من مسئولين كبار إلى كمال بأنه "عميل، ومخرب، ومتعطش إلى القيام بأدوار قيادية، ويعمل على زعزعة استقرار البلاد من خلال تلقي أموال من الخارج".  تتفرع الحرب اللفظية في جميع الاتجاهات؛ بينما لا يثني ذلك عباس عن المضي في خطابه الخاص بتطور أوضاع العمال: "في ظل عبد الناصر، كان هناك عقد اجتماعي يحقق نوع من التوازن؛ وعند التحول من رأسمالية الدولة إلى سياسات السوق الحرة، برزت الحاجة إلى إرساء نظام فعلي للآمان الاجتماعي يستند إلى مبدأ المواطنة، وإطلاق برنامج للتأهيل يسعى إلى مواكبة متغيرات السوق، وإعادة التفكير في التمثيل النقابي مع وجود تنظيم حقيقي لرجال الأعمال؛ وهي جميعها مكونات مهمة لضمان إقامة الحوار وتحقيق الاستقرار".

صحيح أن خبرة دار الخدمات النقابية قد أضفت على كمال عباس ثقة أكبر بالإضافة إلى تفتح أكبر على العالم.  ومع ذلك، يظل مقيما في مدينة الخامس عشر من مايو التي تحتوي على أغلبية من العمال؛ وأحيانا ما يقوم بقيادة سيارة المركز؛ كما يحدث أن يسافر إلى الخارج..حيث منحت له الجمهورية الفرنسية في عام 1999 جائزة حقوق الإنسان في احتفالية عقدت بمتحف اللوفر، ويقول: "حينما أشاروا إلي لأضواء برج إيفل في باريس في أحد الأمسيات، ذكرتني بصورة أفران الحديد والصلب المضيئة ليلا؛ وهي بالنسبة لي صورة أكثر جمالا".    

إضافة تعليق جديد