كمال عباس يكتب: الحد الأدنى.. وحد الفقر

مقالات
الأحد, أكتوبر 26, 2025 - 07:40

في ظل حالة من الترقب وانتظار “جماهير قوى الشعب العاملة” لموعد إعلان القرار المنتظر برفع أسعار الوقود، وكعادتها دائمًا في “سرعة تلبية احتياجات محدودى الدخل”، وكحكومة ملتزمة باتفاقاتها مع صندوق النقد الدولى بادرات بإصدار قرار رفع أسعار الوقود صباح الجمعة قبل الماضية، رغم نفي “اليكس سيجورا” الممثل المقيم الأول لصندوق النقد بالقاهرة، في تصريحاته التي أوضح فيها ان الصندوق لا يوصي الحكومة المصرية برفع أسعار الوقود، مشيراً إلى أن قرارات التسعير تخضع بالكامل لتقديرات الحكومة المصرية.

ولعل المثير للدهشة أن يأتي هذا القرار رغم انخفاض أسعار البترول فى الأسواق العالمية- الذي دفع العديد من البلدان إلى تخفيض أسعار المنتجات البترولية- لتعقبه بطبيعة الحال موجة جديدة من ارتفاع الأسعار.

وكعادتها دائمًا مع كل مرة ترفع فيها الحكومة الأسعار، أطلقت باقة من التصريحات الحكومية المستهلكة، بدأتها بالتصريح التاريخي- الذي عجز الباحثون عن تفسيره- بأن رفع الأسعار يصب فى مصلحة المواطنين وخاصةً محدودي الدخل منهم!

وأكدت الحكومة أن كافة القرارات التي تصدرها تخضع للدراسة والفحص والتمحيص أكثر من مائة مرة، فى تناقض واضح مع التصريح الشهير بأن كل المشاريع التى سبق انجازها – والتى تسببت فى السقوط فى هاوية الديون – تمت دون دراسة جدوى.

وشددت الحكومة على أن هذه الإجراءات ضرورية لمواجهة الأزمة الاقتصادية، وأن على الشعب أن يدعم الحكومة التى تعمل ليل نهار من أجل محدودى الدخل، ولا يلتفت أبدًا للأصوات الناقمة التى تدعى أن السياسات الحكومية المتبعة هى سبب الأزمة! وهي السياسات التي أصبحت مصر-بفضلها- فى ترتيب متقدم بين الدول الأكثر مديونية فى العالم، وهو إنجاز لم تحققه أيٌ من الحكومات السابقة.

وأكدت التصريحات الحكومية أنها لن تلتفت ولن ترد على تلك الأصوات، وأنها ستمضي على نهجها فى بيع أراضى الدولة وشركاتها، وأنها ستسدد الديون بمزيد من الديون! وأنها لن ترد أبدًا على السؤال الذي يطرح نفسه دائمًا: “لماذا تحمل الحكومة فاتورة الأزمة الاقتصادية للفقراء من خلال رفعها الأسعار، وانسحابها من تقديم الخدمات الأساسية فى الصحة والتعليم؟”

في ظل هذا الواقع المأزوم، ظهرت بعض الأصوات المطالِبة برفع الحد الأدنى للأجور، لكن وزير العمل – كالعادة – استقبل هذه المطالب بغضبٍ واستنكار، فالوزير بحكم نشأته وتاريخه في كنف اتحاد العمال الرسمي، يرى أنه المُتحدِّث الوحيد باسم العمال.

وليسمح لنا سيادة الوزير ويفسح صدره لمناقشة تلك التصريحات بهدوء وبدون “زعل”، كما صدرت على صفحة رئاسة مجلس الوزراء المصرى، حيث شدد الوزير على أن “قرارات زيادة الأجور لا تصدر بشكل عشوائى، وإنما تأتى بعد دراسات دقيقة وتوافق جماعى بين جميع الأطراف المعنية”، مشيرًا أن الاجتماع المقبل للمجلس سيعقد خلال الفترة القادمة لبحث ملف زيادة الحد الأدنى للأجور والعلاوة الدورية.

إذًا طبقًا لهذه التصريحات، سيناقش المجلس القومي للأجور – لدى اجتماعه- الحد الأدنى للأجور، وطبقًا لهذه التصريحات تأتى الزيادة دائمًا بعد دراسات دقيقة. فهل يُمكن أن يخبرنا سيادة الوزير عن طبيعة الدراسات التي أجرتها الحكومة والمجلس القومى للأجور عندما حددت الحد الأدنى للأجور فى المرات السابقة؟ وما هي المعايير التي تم الاستناد إليها في تحديد الحد الأدنى الحالي بسبعة آلاف جنيه؟ ولماذا ليس ثمانية أو تسعة آلاف جنيه؟

وأود الإشارة هنا.. بداية، إلى أن الحد الأدنى للأجر يُعد أداة لتحقيق التوزيع العادل للدخل وتقليص الفوارق بين الطبقات. لذلك اتُفق على عددٍ من المعايير تم تحديدها كما وردت في اتفاقية منظمة العمل الدولية رقم 131 لسنة 1970 الخاصة بتحديد الحد الأدنى للأجور والتى تلتزم الدول بمراعاتها، أهمها:

احتياجات العمال وأسرهم، وتكاليف المعيشة، أى حساب تكفلة احتياجات العامل وأسرته من مأكل وملبس وسكن وتعليم وصحة بما يضمن الحد الأدنى من الكرامة والإنسانية.

مراعاة معدل التضخم، ومعادلة ارتفاع الأسعار للحفاظ على القوة الشرائية للعمال، فإذا زادت الأسعار بنسبة معينة لابد أن يعاد النظر فى الحد الأدنى للأجر بنفس النسبة تقريبًا.

وأخيرًا وقبل أن يضيق صدر سيادة الوزير! فليسمح لنا بسؤال: “أليس من الضرورى قبل دراسة زيادة الحد الأدنى للأجر، دراسة لماذا لم يطبق الحد الأدنى للأجر الحالى؟”

فالواقع الذي يعلمه القاصى والدانى فى مصر أن أصحاب الأعمال فى أغلب شركات القطاع الخاص لم يلتزموا بتنفيذ الحد الأدنى للأجر، بل أن أغلب وزارات وهيئات الحكومة لم تلتزم-هي ذاتها- بالتطبيق الصحيح لقرار السيد رئيس مجلس الوزراء رقم 2594 لسنة 2025، الذي نص على ألا يقل الأجر المقرر عن 7100 جنيه للدرجة السادسة ويزداد طبقًا للدرجة الوظيفية حتى يصل إلى 13500 جنيه للدرجة الممتازة.

وما أود أن أصل إليه فى هذه المقالة أن قضية تحديد حد أدنى عادل للأجور أصبحت من أهم القضايا الاقتصادية نظرًا لتأثيراتها الاجتماعية وكونها عاملاً رئيسياُ فى تدهور الأحوال المعيشية للعمال ودفعهم إلى ما دون حد الفقر، بما له من تأثير سلبي على السلم الاجتماعى واستقرار ظروف العمل.

ذلك أن المراقب للساحة العمالية وما شهدته مؤخراً من إضرابات وتحركات احتجاجية ـ يمكنه أن يرى أنها تحدث للمطالبة بتطبيق الحد الأدنى للأجر، وإنها لم تقتصر على قطاع عمالى بعينه بل شملت العاملين في كافة القطاعات.

إذن.. نحن في حاجة – قبل أن يعقد المجلس القومى للأجور اجتماعه القادم – أن يتم تنظيم حوار اجتماعى يشارك فيه عدد من الخبراء الاقتصاديين والقانونيين المشهود لهم بالكفاءة، بجانب ممثلين حقيقيين للعمال، وبدعم فني من منظمة العمل الدولية، لوضع المعايير والمبادئ التى يجب أن يحدد على أساسها قيمة الحد الأدنى للأجر، وكذلك تطوير آليات مناسبة لتنفيذه فعلياً دون استثناء ودون التفاف عليه.

كمال عباس

المنسق العام لدار الخدمات النقابية والعمالية

https://daaarb.com/%d9%83%d9%85%d8%a7%d9%84-%d8%b9%d8%a8%d8%a7%d8%b3-%d9%8a%d9%83%d8%aa%d8%a8-%d8%a7%d9%84%d8%ad%d8%af-%d8%a7%d9%84%d8%a3%d8%af%d9%86%d9%89-%d9%88%d8%ad%d8%af-%d8%a7%d9%84%d9%81%d9%82%d8%b1/?fbclid=IwY2xjawNsJ3VleHRuA2FlbQIxMABicmlkETFsbDlWcFVOdkhuUHEwY1Z4AR5DbFmPBGqbYqcXs91zsNlMh09ILoqSh3VjrUcuDnKMPrv94C6GPEtN_5H4Rg_aem_Qgk-C_Et-H9k6oKJZvydYg

 

إضافة تعليق جديد