سيادة الرئيس
تحية طيبة وبعد
فوجئنا بإصدار مجلس الوزراء كتابا دورياً للسادة الوزراء على سند من توجيهات سيادتكم .. وهو الكتاب الموقع من السيد أمين عام مجلس الوزراء والذى تناهت صورته إلى أطراف تنفيذية وإعلامية متعددة- مُنوهاً إلى أهمية الالتزام بالتوجه الموحد الذى يقره مجلس الوزراء توحيداً لسياسات التعامل فى شأن الأمور المالية المتعلقة بالقطاع العمالى..وداعياً إلى دراسة عقد لقاء موسع يضم قيادات الصف الثانى والثالث بالوزارات والهيئات والمحافظات والشركات تحفيزاً لدورهم خلال المرحلة القادمة باعتبارهم عصب العمل التنفيذى-غير أن الأمر الخطير والمثير للدهشة فيما تضمنه الكتاب هو توجيه الوزارات المعنية إلى القيام "بالتنسيق مع الاتحاد العام لعمال مصر لمساندته فى تحقيق مكاسب العمال المشروعة تفعيلاً لدوره بالأوساط العمالية فى مواجهة النقابات المستقلة والعناصر الإثارية"!!
ورغم أننا نثمن المستهدف من هذا التنسيق- كما يقدمه الكتاب الدورى- "عملاً على الرصد المبكر للمشاكل والتشاور فى حلها من خلال الزيارات الميدانية للمواقع العمالية "- فإن هذا التوجيه المُستغرب يستدعى ما يلى من الملاحظات التى يهمنا أن نرفعها إلى سيادتكم إبرازاً لإشكاليات هذا التوجه، وتوضيحاً لما ينطوى عليه من مخاطر:
كما نؤكد أن التحركات العمالية لا تأتى إلا بسبب تعذر المفاوضة حول المطالب ..أو اليأس من إمكانية إجرائها سواء بسبب تعنت الطرف الآخر أو عدم ثقة العمال فيمن يمثلهم، وكثيراً ما يرتبط تصاعدها بالنكوص عن تطبيق قرارات أو الوفاء بالتزامات ووعود سبق تقديمها- إن العمال فى مصر-كما فى كل مكان على وجه الأرض- لم يحتاجوا يوماً إلى من يحرضهم على التحركات أو الإضرابات التى كانت وستظل آلية الضغط التى تفرض نفسها إذا ما تعذرت المفاوضة ..إنها الوجه الآخر لمائدة المفاوضات التى ربما كانت السبيل إليها، أو إلى تعظيم ثمـارها ومكاسبها، أو إلى تفعيلها واستئنافها إذا ما تعذرت.
إن أوضاع العمال المعيشية هى المحرض الحق على التحركات العمالية.. وكما أن أحداً لا يسعه أن يزعم أنه صانعها، فإن أحداً لا يمكنه منعها من الحدوث.. تُمكن فقط الإدارة الرشيدة للمنازعات العمالية، وتجفيف منابع الغضب بتفعيل أدوات الحوار الاجتماعى والمفاوضة المجتمعية.. بتفهم الدوافع والأسباب الحقيقية، وإعلاء الشفافية والحوكمة.
ليس ثمة مجتمع لا يشهد جدلاً اجتماعياً بين طبقاته وفئاته.. لأنه لا يوجد مجتمع لا تتعارض فيه المصالح.. قد يحتدم هذا الجدل، وقد يشهد هدوءاً نسبياً ويخفت بعض الوقت.. غير أنه لا يتوقف.. لهذا.. فإن خنق القنوات التى يمارس فيها هذا الجدل الاجتماعى وإغلاقها لا يعنى الإجهاز عليه، وإنما فقط إجباره على اتخاذ مسارات أخرى ربما كانت فى غاية الخطورة.
وفى بلادنا عندما أغلقت قنوات الجدل الاجتماعى والمفاوضة الاجتماعية.. احتقن المجتمع إلى حد المرض، ونالت منه الأصولية والتخلف مثلما نال منه الفقر وضيق العيش.. لم يأمن الصراع بل انفجر به متمثلاً فى تشاحن طائفى ورفض للآخر، وتزايد معدلات الجريمة والعنف.. كان الخطاب الشمولى الطابع الذى ينكر الجدل الاجتماعى على سند من إنكار تناقض المصالح وتباينها.... فلم يؤدِ إنكار التناقضات لغير تفاقمها، ولم يفلح إدعاء السلام الاجتماعى فى كبح جماح السخط المتزايد.
لقد أدى غياب التنظيم النقابى الفاعل الحقيقى إلى صعوبة وربما استحالة المفاوضة بين أطراف العمل .. وتبدى جلياً على الساحة العمالية ذاك الفراغ الذى يضطر العمال المصريين إلى استخدام الإضراب ابتداءً لتحريك المفاوضة.. الفراغ الذى لا يمكن أن تملأه سوى النقابات..النقابات الحقة كما أبدعتها الحركة العمالية الغضة لدى إدراكها هذا الفراغ الذى كان يتعين ملؤه منذ أكثر من قرنين من الزمان، وكما عرفها، وأنشأها العمال المصريون أنفسهم قبل أن يدلفوا إلى القرن العشرين.
إن أزمة الثقة التى تتكشف للعيان خلال الغالبية العظمى من الأحداث العمالية والتعذر الشديد لإجراء المفاوضة بين أطراف العمل ليست سوى النتائج المريرة لغياب المنظمات النقابية التى تمثل العمال وتعبر عن مصالحهم، والتى يمكنهم الثقة بها.
لقد استطاع العمال المصريون- فى أعقاب ثورة 25 يناير- انتزاع بعض من حرياتهم النقابية التى صدر بها الإعلان الوزارى فى الثانى عشر من مارس 2011 .. غير أن ممارسة الحريات النقابية ظلت مع الأسف تواجه - على الأرض- صعوبات بالغة، وتتعرض لانتهاكات فظة .. حيث لم تستطع الحكومات المتعاقبة - فيما بعد الثورة - أن تقرأ الحركة العمالية المصرية أو تتعرف ملامحها، ومطالبها العادلة، ولم تسعَ إلى تجاوز موقف نظام مبارك منها.. بل أنها قد انزلقت إلى اتخاذ موقف متعالِ مما أُطلق عليه "الحركات الفئوية".
إننا ندرك بغير شك مصاعب المرحلة التى تعيشها بلادنا، بما تنطوى عليه من مخاطر، وأوضاع اقتصادية حرجة، كما ندرك- أيضاً- الضرورة الملحة لتوفر القدر الكافى من الاستقرار اللازم لمواجهة مخاطر الإرهاب، وتطوير الأوضاع الاقتصادية.. واثقين فى الإمكانيات الكامنة لتطور كافة أوضاعنا ليس فقط خروجاً من عنق الزجاجة، وإنما أيضاً انطلاقاً إلى أفق رحب واسع.
غير أن تجاوز الحال الرثة التى كان مجتمعنا قد آل إليها فى عقود الركود، ومواجهة مصاعب المرحلة الحالية المكبلة بكل عثرات الماضى، والمتفجرة بآلامه، وتراثه وهواجسه، بل والمحملة بآثامه ورجالاته الذين ما برح الكثيرون منهم فى مواقعهم.. لا يمكن لها أن تتحقق بغير مشاركة الأطراف الاجتماعية جميعها شراكة حقيقية تبدأ من طاولة الحوار والمفاوضات الجادة، وتنتهى إلى اتفاقات وخارطة طريق واضحة المعالم.
إن الديمقراطية الحقيقية التى ثار الشعب المصرى مطالباً بها ليست مجرد مؤسسات تمثيلية.. وانتخابات برلمانية.. إنها نقابات مستقلة.. منظمات مجتمع مدنى.. منظمات ينتظم فيها العاملون والفئات والقطاعات الاجتماعية يعبرون عن مصالحهم مباشرة،.. إنها آليات فاعلة وديمقراطية للمفاوضة الاجتماعية، والمشاركة فى صنع القرار.. آليات فاعلة للرقابة المجتمعية على موارد المجتمع التى تبددت فى سنوات تعسة غابت فيها كل رقابة، وغاب ضمير المجتمع وعقله مع غياب الديمقراطية.
وهذه الحرية النقابية - التى تتعين كفالتها، وعدم الانتقاص منها – إنما "تتمخض عن قاعدة أولية فى التنظيم النقابى تمنحها بعض الدول قيمة دستورية فى ذاتها، لتكفل بمقتضاها حق كل عامل فى الانضمام إلى المنظمة النقابية التى يطمئن إليها، وفى انتقاء واحدة أو أكثر من بينها- عند تعددها- ليكون عضواً فيها، وفى أن ينعزل عنها جميعاً، فلا يلج أبوابها، وكذلك فى أن يعدل عن البقاء فيها منهياً عضويته بها"
[المحكمة الدستورية العليا، الحكم فى القضية رقم 6 لسنة 15ق]
غير أن العاملين فى مصر قد حرموا طويلاً من ممارسة حقهم الدستورى الأصيل فى تكوين منظماتهم النقابية التى يؤسسونها بحرية وفقاً لإرادتهم.. حيث كان من شأن الأحكام التى أوردها قانون النقابات العمالية رقم 35 لسنة 1076 وتعديلاته أن تؤدى إلى تعطيل الحق بدلاً من تنظيم ممارسته وذلك على الأخص فيما تضمنته من إضفاء الطابع المؤسسى على تنظيم واحد (هو الاتحاد العام لنقابات عمال مصر) فى المواد أرقام 7، 13، 14، 17، 52.. فضلاً عن السلطات التى يمنحها القانون للمستويات الأعلى من التنظيم، وخاصـة مجلس إدارة الاتحاد العام على إجراءات الترشيح والانتخاب لعضوية مجالس النقابات (المواد أرقام 41، 42، 43)، والهيمنة التى يمارسها مجلس إدارة الاتحاد العام على الإدارة المالية للنقابات (المواد 62، 65).. وهى جميعها المواد التى كانت مثارا لملاحظات لجنة تطبيق الاتفاقيات والتوصيات بمنظمة العمل الدولية لتعارضها الشديد مع اتفاقية العمل رقم 87 المصدق عليها من الحكومة المصرية.. وهى الملاحظات التى أدت إلى إدراج الحالة المصرية ضمن القائمة القصيرة "للحالات الفردية" لأول مرة عام 2008، حيث تمت مناقشتها فى مؤتمر العمل الدولى السابع والتسعين، ثم أعيد إدراجها- لنفس الأسباب- عامى 2010، 2013 لعدم اتخاذ ما يمكن اعتباره خطوات جدية فى اتجاه وفاء الحكومة المصرية بالتزاماتها والتوافق مع الاتفاقيات الموقعة منها فيما يتعلق بالحق فى تكوين النقابات، والحق فى التنظيم والمفاوضة الجماعية.
ولعله غنىٌ عن الذكر أن وفاء الحكومة المصرية بالاستحقاقات المتعلقة بمعايير العمل الأساسية إنما يتطلب إصدار القانون الجديد للحريات النقابية، وإزاحة القيود القانونية التى تكبلها والتى تتمثل فى القانون غير الدستورى الذى يفترق افتراقاً حاداً عن مستويات العمل الدولية.. كما يتطلب أيضاً إزالة كافة الآثار المترتبة على فرض هذه القيود عقوداً طويلة.. وفى مقدمتها الوضع الخاص الشائه للاتحاد العام لنقابات عمال مصر، حيث أن التشكيلات القائمة لهيئات الاتحاد العام لنقابات عمال مصر"الرسمى" تنال منها مطاعن جدية بما يسقط عنها كل شرعية.. وذاك على النحو التالى:
إن التراخى فى تنفيذ هذه الأحكام طوال السنوات السابقة على ثورة يناير 2011 لا ينال من حجيتها، ولا يقدح فيما يترتب عليها من بطلان كافة هيئات الاتحاد العام لنقابات عمال مصر والنقابات التابعة له .. كما أنه لا يعبد إليها شرعيتها المفتقدة.
وبناءً على ذلك صدرت القرارات الوزارية أرقام 188، 189، 190 لسنة 2011 بتشكيل اللجنة المؤقتة لإدارة الاتحاد العام، وتحديد اختصاصاتها.
ثم صدر القرار الوزارى رقم 232بحل مجالس إدارات سبع نقابات عامة هى نقابات العاملين بصناعات البناء والأخشاب وصنع مواد البناء، والعاملين بالمرافق العامة، العاملين بالكيماويات، والعاملين بالخدمات الإدارية والاجتماعية، والعاملين بالصناعات الهندسية والمعدنية والكهربائية، ولعاملين بالنقل البحرى، والعاملين بالاتصالات
هكذا. إن هذين الحكمين لا يؤكدان- فقط- صحة القرار الصادر بحل سبع نقابات عامة، وإنما يبينان أيضاً خطأ استمرار باقى مجالس إدارات كافة هيئات الاتحاد تنفيذاً للأحكام القضائية.
حيث يترتب على صدور الحكم بعدم دستورية هذه المادة ومن ثم عدم دستورية إجراءً جوهرياً من إجراءات الانتخابات النقابية تأكيد بطلان تشكيلات المجالس المفترض انتخابها وفقاً لهذه الإجراءات
وإذا كان الاتحاد العام لنقابات عمال مصر"الرسمى القديم" يعمد إلى الهجوم على النقابات المستقلة وإلصاق الاتهامات بها.. فإننا نؤكد إلى أن نزاع هذا الاتحاد ليس معنا.. وإنما النزاع الحقيقى- منذ سنوات وعقود- هو نزاع العمال المصريين مع هذه المؤسسة التى لم يروا فيها يوماً سوى إحدى مؤسسات النظام السابق وواحدة من أدواته للقهر والهيمنة والفساد.
سيادة الرئيس
لـــــــــــذلك
ندعوكم إلى الانتصار لحق العمال المصريين فى تكوين نقاباتهم بحرية.
وفقكم الله إلى ما فيه خيرنا جميعنا
وتفضلوا بقبول فائق الاحترام
إضافة تعليق جديد