حسن بدوي يكتب: حقيقة القرارات الأخيرة المسماة "حزمة الحماية الاجتماعية"

مقالات
السبت, فبراير 17, 2024 - 16:56

حقيقة القرارات الأخيرة المسماة "حزمة الحماية الاجتماعية"

حسن بدوي

كاتب صحفي

 

 قالوا قديماً إن النواة تسند الزير.. ومن هذا المنطلق فإن أي زيادة في الأجر أو المعاش قد تجعل الإنسان بتنفس يوماً أو بضعة أيام.. ولكن النواة تصبح عديمة الأثر عندما يكون الزير أصلاً مهشم، وليس به ما يكفي لري عطش العامل وأسرته إلى حياة إنسانية كريمة..

وقد جاءت قرارات الرئيس السيسي بشأن "الحماية الاجتماعية" في سياق اقتراب مصر من اتخاذ قرار جديد هو الرابع من نوعه منذ بداية 2022 بتعويم العملة المصرية، استجابة لنتائج محادثات تجرى مع صندوق النقد الدولي منذ أشهر تحثها على خفض قيمة عملتها، للتوصل إلى اتفاق جديد موسع مع الصندوق والشركاء قد يضمن لمصر تمويلاً بنحو 10 مليارات دولار.

ويأتي التعويم المنتظر، والذي يعني انخفاض القيمة الحقيقية للأجور والمعاشات أيضاً وسط انفلات صارخ في أسعار كافة السلع والخدمات، وتزايد الغضب الشعبي، حتى أن الأسبوعين الماضيين من فبراير شهدا ثلاثة إضرابات عمالية، في شركة تي أند سي للملابس الجاهزة في العبور، ومطاحن السويس، وشركة يونيفيرسال بالسادس من أكتوبر.

 وتضمنت الحزمة ستة قرارات، سأقتصر التعليق عليها هنا على ثلاثة قرارات منها تتعلق بمستويات معيشة أصحاب الأجور الدنيا والمعاشات.

** ومن حيث المبدأ، لابد من التذكير بأن مطلب الشعب الذي هتفت به الملايين في ميادين التحرير بمختلف المحافظات خلال ثورة 25 يناير، هو العدالة الاجتماعية، وليس الحماية الاجتماعية، وشتان الفارق بينهما.. فالحماية الاجتماعية عبارة عن منح هزيلة لفئات محدودة من المهمشين، ومسكنات عديمة الأثر لأصحاب الأجور والمعاشات، بينما العدالة الاجتماعية هي حزمة سياسات تصدر بها قوانين، وتشكل عنصراً أساسياً محفزاً لدوران عجلة تنمية وطنية شاملة ومستدامة، تستند على الاقتصاد الإنتاجي في قطاعات الصناعة والزراعة والطاقة، وليس على الاستيراد والجباية والريع..

 

** القرار الأول من الحزمة، والذي يتعلق برفع الحد الأدنى للأجور بنسبة 50%، ليصل إلى 6 آلاف جنيه شهرياً، هو في حقيقة الأمر إذا ربطناه بالارتفاع الجنوني المنفلت لأسعار جميع السلع والخدمات وبالتعويم (أي تخفيض قيمة العملة المصرية) المنتظر قريباً، لن يمنح العمال أية فرصة لتحسين مستوى معيشتهم.. كبف؟

-             يعادل الحد الأدنى الجديد للأجر، قبل التعويم المقبل خلال أيام أو أسابيع، أقل من 200 دولار بأسعار البنوك، بينما يعادل وفق التخفيض المقبل للعملة، والذي سيرفع سعر الدولار لأكثر من 50 جنيه رسمياً حسب تقديرات الخبراء، نحو 120 دولاراً.

وإذا قارنا ذلك بالوضع قبل ديسمبر 2016، أي قبل أن يتم التعويم الأول للعملة، عندما كان الحد الأدني للأجور 2000 جنيه، أي ما يعادل نحو 285 دولار بسعر الدولار وقتها 7 جنيهات، فإن هذا معناه أن العامل انخفضت القوة الشرائية لأجره الحقيقي بمقدار 165 دولار، وأنه يجب أن يتقاضى الآن حداً أدنى للأجر قيمته 14 ألف جنيه ليتمكن من الحصول على السلع والخدمات التي كان يحصل عليها عام 2016.

-             والأهم أن الحد الأدنى للأجور لا يطبق عادة إلا في المواقع الحكومية، التي تضم نحو خمسة ملايين موظف، أما القطاع الخاص الذي يضم نحو 8 ملايين عامل والعمالة غير المنتظمة البالغة نحو 14 مليون عامل، وعمال قطاع الأعمال العام الذين تقلصوا إلى 250 ألفاً، فجميعهم لن يحصلوا على هذا الحد الأدنى إلا أذا أضربوا عن العمل وسط تضامن واسع بين قطاعاتهم المختلفة، هذا هو الواقع وليس تحريضاً.. كيف؟

في القطاع الخاص يتوقف تطبيق الحد الأدنى للأجور على مفاوضات قد تتم أو لا تتم مع أصحاب الشركات، وإذا تمت فهناك الحجة الجاهزة لدى أصحاب العمل بأن شركاتهم متعثرة، وسوف يلعب الفساد البيروقراطي دوره في تسهيل تهرب الكثير منهم من الالتزام بالحد الأدنى.

وفي شركات قطاع الأعمال العام فسوف يعمم توجيه من الشركات القابضة كالعادة لشركاتها التابعة بأن يتم الصرف طبقاً للأوضاع الاقتصادية لكل شركة، وندور في نفس دائرة مواقع القطاع الخاص.

والعمالة غير المنتظمة هي أصلاً خارج نطاق مثل هذه القرارات لأنها عمالة متنقلة من عمل لآخر، ومن صاحب عمل لآخر، وفي أعمال غير دائمة وغير متصلة، علاوة على أنها لا تتمتع بالحماية التأمينية اجتماعياً وصحياً

  • وتتضمن الحزمة قراراً برفع حد الإعفاء الضريبي لجميع العاملين بالدولة بالحكومة والقطاعين العام والخاص بنسبة 33%، من 45 ألف جنيه إلى 60 ألف جنيه، ومن المهم هنا التذكير بأن غالبية المصريين مثقلين بأعباء جسيمة من الضرائب والرسوم على كل شئ بدءاً من الإنترنت وحتى رسوم جميع المعاملات الحكومية، بينما تصر الحكومات المتعاقبة على رفض تطبيق الضريبة التصاعدية على الثروات، والتي تم تخفيضها من 30% إلى 22.5% منذ عام 2014، رغم أنها تتراوح في الدول الرأسمالية الغنية مثل أمريكا واليابان ودول الاتحاد الأوروبي بين 45% و65%. كما أن المصدر الضريبي الأساسي هو ضريبة القيمة المضافة التي تم في ديسمبر 2016 زيادتها من 10% إلى 15% ثم وصلت الآن إلى 35% وتم تعميمها على كل السلع والخدمات التي يحتاجها الفقراء والأثرياء معاً.

•            أما القرار الغريب وسط هذه الحزمة فهو زيادة بنسبة 15% في المعاشات لـ 13 مليون مواطن، بتكلفة إجمالية 74 مليار جنيه، يعني من يتقاضى معاشاً ألف جنيه سيتقاضى 1150 جنيها، وأبو 2000 سيتقاضى 2300، ولكن مصدر الغرابة ليس متعلقاً بقيمة الزيادة الهزيلة، بل بإدراج زيادة معاشات ضمن قرارات حكومية أصلاً، فأموال المعاشات هي مال خاص، مقتطع من أجور أصحاب المعاشات طوال فترة عملهم السابقة، وقد استولت الحكومة على تلك الأموال منذ سنوات طويلة ليس لصالح أصحاب المعاشات بل لسد عجوزات موازناتها، وقد بلغ حجم تلك الأموال حسب تصريحات وزيرة التأمينات في عام 2014 نحو 740 مليار جنيه بينما قدرها خبراء وقتها بأكثر من تريليون جنيه، ولا شك أنها تقترب الآن من تريليوني جنيه. إن استمرار استيلاء الحكومة على تلك الأموال مخالفة صريحة للدستور الذي نص على إنشاء هيئة غير حكومية يمثل فيها اتحاد أصحاب المعاشات إلى جانب خبراء، تئول إليها تلك الأموال وتستثمرها بمعرفتها وتديرها وتخصص ما تراه ضرورياً لحياة كريمة لأصحاب المعاشات؟

 

** الخلاصة.

إن أية إجراءات من منظور "الحماية الاجتماعية" هي مجرد مسكنات سرعان ما يضيع أثرها نتيجة الانخفاض المتواصل في القيمة الحقيقية للأجور، والارتفاع المنفلت في الأسعار وأعباء الضرائب والرسوم الباهظة، ولذا فإن التمسك بربط الأجر بالأسعار ضرورة إنسانية وعاجلة، لحين توافر ظروف سياسية واقتصادية مختلفة تسمح بالشروع في تطبيق المطلب الشعبي "العدالة الاجتماعية".

إضافة تعليق جديد